صلابة وطن

صلابة وطن

د. دلال عبد الحليم الفاعوري

قسى الزمن علينا نحن أبناء هذا الوطن ، لنصاب بفجيعة قتل ابننا .. ابن هذا الوطن لنفجع بما انتهت به حياة الشهيد البطل معاذ الكساسبة والذي أضافت حادثة قتله بتلك الطريقة المأساوية شعورا لدى جميع أبناء هذا الوطن والذين هم أخوة وأخوات آباء وأمهات للشهيد الراحل … فإذا ظن البعض أن خسارته كانت خسارة لوالديه وعائلته فقط فإنهم وقعوا في الخطأ وإذا ظن البعض اﻵخر أن خسارته كانت خسارة لجميع اﻷردنيين فاﻷمر صحيح ولكن في حده اﻷدنى ، ذلك أن هذا الشاب الذي رحل قد هز العالم نتيجة الحالة اﻹنسانية التي حصلت له وقد شاركونا أحزاننا رؤساء وملوك الدول العربية والصديقة بفقدانه مع أن روحه معنا وتتجول بيننا ” وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ” صدق الله العظيم

ويبقى السؤال الذي ﻻ بد من البحث عن إجابة عليه وهو من المستفيد ؟! إذا قلنا أن القتل بهذه البشاعة مقبول فإننا نخرج بذلك عن ديننا ﻷن الله وحده هو الذي يعاقب بالنار بعد أن يكون قد عفا عمن شملهم رحمته وعفوه .. فكيف يجوز استخدام النار التي انحصر استخدامها بين يدي الله العلي اﻷعلى وإرادته

مرت شعوب المنطقة بمراحل عديدة طغى الظلم في بعض أوقاتها وساد العدل في ظروف أخرى .. وقرأنا في تاريخ منطقتنا عن عهود سياسية كثيرة ولكل مرحلة هويتها القومية والعرقية والدينية ولكل مرحلة أيضا كانت الخصومات متبادلة بين العديد من اﻷطراف .. تارة نجد فئة تستقوي على اﻷخرى تحت مظلة اﻻدعاء بالعدل ، لكننا لم نقرأ عن خصم لجأ إلى إيذاء خصمه بإحراقه بالنار فأين نحن من هذه الواقعة وماذا يترتب علينا من مسؤوليات وخطوات بانت في نظرنا ضرورة قصوى

مرت على هذا البلد ايضا ظروف اقتضت درجة عالية من الحدة لتنفيذ القانون على معايير متعددة أبرزها المصلحة الوطنية العليا ضمانا للأمن والأمان بغض النظر عن مصدر التوتر وأسبابه ولم يسجل التاريخ التعذبب في النار إلا في حالتين الأولى وضع سيدنا ابراهيم في وسط النار فحمته عناية ربانية وهي التي وردت في القرآن الكريم ” قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ” صدق الله العظيم فانتفى الضرر الذي استهدفه من كانوا يظنون بقدرتهم على تحقيقه أما واقعة أخرى فقد وردت أيضا في القرآن الكريم ” قتل أصحاب اﻷخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود ” صدق الله العظيم وكان ذلك في حقبة تاريخية قديمة جدا وفي ظرف ﻻ نعرف عن تفصيلاته الكثير ونأخذه من باب اليقين ثقة منا لمرجعيته لوروده كنص في القرآن الكريم .. فهل نكون البلد اﻷول في العالم الذي يمر بهذه الظروف التي بلغت في حدتها وقسوتها وشدتها ما لم تبلغه أي ظروف أخرى .. وإذا كان هناك ظن بإضعاف اﻷردن عند بلوغ العنف ضده أعلى الدرجات ها هو اﻷردن قد فاجأ العالم بأعلى درجات التماسك اﻻجتماعي في هذا البلد والذي يشكل تماسكا سياسيا بأعلى درجة سجلها التاريخ فقبلنا نحن أبناء الوطن تلك الصدمة العنيفة المتمثلة بذلك اﻹيذاء الذي تعرض له ابننا معاذ الكساسبه وتعاطفنا جميعا ..تبادلنا مشاعر الحزن ذكورا وإناثا آباء وأمهات إخوان وأخوات للشهيد الراحل أسكنه الله فسيح جناته

ما أذهل العالم وجعله ينظر إلى اﻷردن كصخرة صلبة عصية على كل المخاطر حتى ولو كانت بأعلى درجات القسوة والعنف ليتحرك الجميع بدءا من رأس الدولة جلالة الملك أطال الله عمره إلى جميع أبناء الوطن وفي كافة المحافظات دون استثناء تأكيدا بأن الشهيد الراحل ليس ابنا لعشيرته حصرا وانما ابن لجميع اﻷردنيين كافة ومن كافة المقيمين على أرض الدولة ومن أتباع وكافة الديانات السماوية فمشاركة المسلمين والمسيحيين والمقيمين على أرض الوطن بهذا المصاب الجلل كانت على نفس الدرجة .. حيث خيم الحزن على الجميع دون استثناء

وﻷن خسارتنا فادحة فإننا نوجه رسالة إلى جميع من يظنون أن اﻷردن يضعف أمام الصعاب بأنه على العكس تماما وإذا كنا قد حزنا وبكينا فذلك ﻷننا من بني البشر .. أما أن نضعف فهذا لن يكون أبدا ﻷن إيماننا بالله وحبنا للوطن هما عنصران رئيسان وهويتنا الشخصية لكل منا ولكلنا جميعا كأبناء لهذا الوطن اﻷردن الغالي .. وأتمنى أن تستقر حال صلابتنا ليعلم الجميع بأننا شعب لنا قيادة ﻻ ترى في كرسي القيادة متعة بل تحملا لمسؤوليات موقع القيادة فإن بكت في هذا الظرف الحزين فذلك ﻷنها من بني البشر وتتحمل مسؤولياتها القيادية ﻷنها أيضا من نسل خير بني البشر .. أما ردود الفعل فهي متروكة لحسابات هذه القيادة الحكيمة

وتبقى في نفسي مشاعر تعجز العبارات والكلمات عن التعبير عنها ولكنني أدعو الله أن يجمل ذوي الشهيد الراحل بالصبر بل ويجملنا جميعا ﻷن الراحل ابننا جميعا كما ذكرت وأن ديننا دين محبة ورقة في تعامله مع أشد الخصوم بأرق اﻷساليب اقتداء بالنهج اﻹسلامي الصحيح والذي ورد في القرآن الكريم ” وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراًإِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ” صدق الله العظيم

هذه أخلاقنا المستندة إلى أخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والذي رأت العناية اﻹلهية أن يكون القرآن الكريم من خلاله كنبي لنا

فهل من اﻹسلام ما وقع من تجاوزات هي من مبادئه

وهل من فعل فعلة بهذه البشاعة يخاف يوما عبوسا قمطريرا ؟!

اﻷردن أرض الشهداء والرباط وقبل ذلك وبعده اﻹيمان بالله الواحد اﻷحد … عزائي لعشيرة الكساسبة على وجه الخصوص وجميع أبناء وبنات الشعب اﻷردني بدءا من قيادته الصابرة الصبورة ومرورا بجميع أبناء الوطن إخوة وأخوات وإلى أبناء اﻷمة العربية كافة والذين انعكست مشاعرهم والتي بانت أيضا من خلال هذا الفيض من اﻻتصاﻻت وبرقيات التعازي والتي بانت أيضا من خلال توافدهم على مقرات السفارات اﻷردنية في الخارج كما ﻻ أنسى اﻹشارة إلى مشاعر اﻷردنيين المقيمين بالخارج والذين كانت لوقفاتهم اﻷثر الكبير في شد أزر هذا الوطن دون تحديد لجالية أردنية أو أخرى فقد كان حزن الجميع واحد

فإلى روح الشهيد معاذ الكساسبة كل تحية وإكبار وإلى كافة أبناء اﻷردن وبخاصة عشيرة الكساسبة كل احترام وتقدير ومواساة

هذا هو الوطن “اﻷردن” كان صلبا وﻻ يزال وسيبقى بإذن الله تعالى وبعونه وهو المعين

إنا لله وإنا إليه راجعون

فبراير 11, 2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *